Main menu

Pages

أنواع الضحك والسخرية بصفة خاصة





أنواع الضحك والسخرية بصفة خاصة:

تنطلق دراستنا هذه من أنه لا يوجد في الكوميدي وفي الضحك أي شيء مجرد..، فالضاحك هو الإنسان ومن ثم فإن مشكلة الكوميدي لا يمكن دراستها بمعزل عن سيكولوجية الضحك  وسيكولوجية تلقي الكوميدي.

ولذا فنحن نبدأ من وضع سؤالنا عن أنواع الضحك ؟ ومن الممكن أن نسأل أنفسنا: الا ترتبط تعريفات أشكال الكوميدي بتعريفات أنواع الضحك ؟

لابد إذن من النظر ثم الاجابة، فكم نوع للضحك يمكن الوقوف عنده عموما، وأي من هذه الأنواع يصلح لهدفنا اكثر وأيها أقل صلاحية !؟

وقد تم التوقف من قبل عند هذا السؤال في أدبياتنا، لكن أكثر محاولات تصنيف أنواع الضحك امتلاء وامتاعا، هي ما قام به مؤرخ ومنظر السينما السوفييتية الكوميدية (يورنيف)، وليس ما قام به أحد من الفلاسفة أو علماء النفس.! وهو يقول: "الضحك.! يمكن أن يكون سعيدا أو حزينا طيبا أو قاسيا، ذكيا أو أحمق، متعاليا أو كسيرا، انطوائيا أو انبساطيا، محتقرا أو مرتعبا، مهينا أو مشجعا، وقحا أو جبانا، ودودا أو عدوانيا ملتويا أو مباشرا، لعوبا أو ساذجا، رقيقا أو بذيئا، انه متعدد المعاني وبلا معنى، احتفالي ومقتضب، مفضوح ومحير...

ويمكن أيضا إضافة الصفات التالية مرح، محزن، عصبي، متهكم، بدني، حيواني.. بل يمكن القول بضحك كئيب.." وأهم ما في هذه القائمة هو غناها وسطوعها وحيويتها..، فهي نتاج المراقبة الحياتية وليست حصيلة تأملات منعزلة، والكاتب فيما سبق يطور ملاحظاته ويكشف لنا أن اختلاف أنواع الضحك مرتبط باختلاف العلاقات الإنسانية، وهو يرسم بهذا خطوط واحد من أهم موضوعات الكوميديا..، وهنا يجب أن أؤكد بشكل خاص، أن كل دراساته المكرسة للسينما السوفييتية الكوميدية قد بدأها الكاتب من هنا بالذات، أي من السؤال عن أنواع الضحك، وهو سؤال جد هام، على ما يبدو - بالنسبة له، وهو كذلك هام بالنسبة لهدفنا نحن أيضا.. ولكن.. عند (يورنيف) تنحصر أهمية السؤال عن أنواع الضحك في أن هذه الأنواع المختلفة هي جوهر التنوع والاختلاف في الحيل الكوميدية السينمائية.. أما بالنسبة لنا فالمهم هو شيء آخر، فنحن بحاجة الى الاجابة عن السؤال الخاص بمدى ارتباط تعار يف أنواع الضحك بتعاريف أنواع الكوميدي؟.

وقائمة (يورنيف) جد متنوعة، لكنها مع ذلك ليست مكتملة تماما، ففي قائمة Nomenclatura (يورنيف) لا يوجد ذلك النوع من الضحك الذي نواه مفيدا هنا في عملية فهم الأعمال الفنية والأدبية، الا وهو الضحك "الساخر" تحديدا..، ويكتب (يورنيف) مطورا فكرته عن أن أنواع الضحك تتناسب مع أنواع العلاقات الإنسانية: "إن العلاقة الإنسانية المحسوسة أثناء الضحك والمرتبطة به ليست واحدة، فالناس يتضاحكون، يهزأ ون، يتهكمون.."وهكذا فإن السخرية تأتي في المرتبة الأولى، وتلك ملاحظة نواها شديدة القيمة..

أيضا فإن (لسنج)افي (دراماتورجية هامبورج) يقول: "أن تضحك.. وأن تسخر - ليسا أبدا شيئا واحدا.." ونحن نبدأ من هنا، من دراسة السخرية، ولن نضيف أو نعيد شيئا من قائمة (يورنيف) فقط سنختار ومن كل أنواع الضحك نوعا واحدا هو الضحك (الساخر) بالذات..، فهذا - وكما سنرى - النوع الوحيد من الضحك المرتبط بصفة مستمرة مع عالم الكوميدي، فعلى سبيل المثال نشير - وهذا كاف - الى أن المحيط الضخم من الهجاء يقوم كله على ضحك السخرية، وهذا النوع من الضحك هو ما نصادفه غالبا في الحياة.

فلو دققنا النظر - مثلا - في لوحه (ريبين) (1) التي تصور القوزاق وهم يخطون رسالة الى السلطان التركي، يمكن رؤية كم هي عظيمة تلك الدرجات والقيم المتنوعة للضحك والتي أبدعها (ريبين) من القهقهة الملونة الى ضحكات الشماتة أو الابتسامة التي يمكن ملاحظتها بالكاد، وفي الوقت نفسه فإنه يمكن التأكيد بأن كل تعبيرات (ويبين) المتنوعة عن ضحك القوزاق تشمل نوعا واحدا من الضحك هو تحديدا ضحك الاستهزاء.

هذا الفصل الأولي والرئيسي بالنسبة لهذا النوع من الضحك عن غيره، يقودنا الى ما سيلي من بحث تفصيلي وضروري له.. فكيف لنا بهذا التفصيل !؟

توضح الوقائع الميدانية أن الأسلوب الأكثر ملاءمة، هو التصنيف وفقا لدوافع، أو لبواعث الضحك، وبكلمة أخرى، فمن الضروي التساؤل: ممن يضحك الناس على وجه الخصوص ؟ وما الذي يجعلهم هم مضحكين:؟

باختصار فإن المادة يمكن تصنيفها وفق موضوع السخرية.

وهنا - وكما لاحظ من قبل أرسطو - أعتقد أن الضحك يكون على أو من الانسان في كافة أحواله تقريبا، باستثناء واحد هو حالة الألم أو العذاب، فمن الممكن أن تكون هيئة الإنسان مضحكة، وجهه، قوامه، حركته، ومن الممكن أن تبدو أحكامه التي ينعكس فيها النقص العقلي، كوميدية..

فالمجال الخاص للسخرية يقدمه طبع الإنسان، مجال حياته الخلقية، تطلعاته، رغباته وأهدافه..، وأيضا يمكن أن يبدو مضحكا حديث الإنسان باعتباره تصريحا عن خصاله التي كانت خافية من قبل (أثناء صمته)..، وبالجملة فإن الحياة البدنية والعقلية والأخلاقية للإنسان يمكن أن تكون موضوعا للضحك في الحياة.

وفي الفن.. يمكننا أيضا وينفس الطريقة وضع ذات التصنيف السابق، ففي الأعمال الفكاهية بكل تنوعاتها يعرض الإنسان من تلك الزوايا نفسها المثيرة للسخرية في الواقع..، فأحيانا ما يكون تجسيد الإنسان في ذاته، أي كما هو موجود، يكون كافيا لإثارة السخرية، وأحيانا أخرى لا يكون كذلك - أيضا - وفي هذه الحالة يكون من اللازم أن (يفض) المضحك وأن يكشف عنه، وهناك أساليب محددة لهذا الفرض يجب دراستها، وهذه الأساليب هي نفسها في الحياة وفي الفن.

فأحيانا ما يقوم الإنسان - تلقائيا - بإبراز الجوانب المضحكة في طبيعته أو في أفعاله وأحيانا ما يثير هذا السخرية عمدا، وفي الفن كما هو في الحياة تفعل السخرية فعلها بنفس الطريقة، وهناك - كما أشرنا - أساليب معينة مهمتها الكشف عن المضحك في الهيئة والأفكار والأفعال الإنسانية..

إذن فالتصنيف وفقا لموضوع السخرية يرافق التصنيف وفقا للأدوات الفنية المثيرة للضحك، فهيئة الانسان وأفكاره وتطلعا ته تكون مضحكة بطرق مختلفة، وعدا هذا فهناك أداة عامة تصلح لمختلف موضوعات السخرية مثل (الباروديا - المحاكاة التهكمية)

وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم أدوات السخرية الى ما هو أكثر خصوصية وما هو أكثر عمومية وكما يكتب (بوريف)

"فمن الواضح تماما أن تصنيف الأدوات الفنية اللازمة لعملية التصوير الكوميدي المستلهم مادة حياتية، هو أمر ضروري ولازم..."

حول الضاحك والعبوس:

إن الضحك لا يتحقق واقعيا إلا في وجود طرفين مختلفين: الموضوع المضحك والذات الضاحكة أي الانسان.. ومن هنا فإن فلاسفة القرنين التاسع عشر والعشرين قد بحثوا - على ما يبدو - في واحد من الطرفين أو الأخر، فالموضوع الكوميدي هو ما تم بحثه عن دراسات علماء الجمال بينما تناولت دراسات علم النفس بحث الذات الضاحكة.. بينما لا يمكن تحديد (الكوميزم) (2) لا في هذا ولا في ذاك على حدة، إنما في المعطيات الموضوعية المشتركة لدى الإنسان. وهكذا فلم يكتب ولا لمرة واحدة عن أهمية العنصر السيكولوجي في علم الجمال، ويقول (كاجان) بهذا الخصوص: انه من غير الممكن فهم جوهر الكوميدي بمعزل عن بحث سيكولوجية الحس الكوميدي، حس الفكاهة.." ومثله أيضا يقول (جرثمان):إن الكوميدي كفكرة جمالية خالصة لا يوجد أبدا بدون الحس الفكاهي..".

فلكي ينبعث الضحك لابد له من أكثر من عملية، وهي العمليات التي يجب عن طريقها دراسة لحافة مثيراته، شرطياته أسبابه..، وتبعا لنظرية (برجسون) فإن الضحك ينبعث كقانون طبيعي دقيق: فهو يظهر دائما عندما يجد له مبررا.. لكن خطأ مثل هذا الزعم واضح تماما، فقد يوجد سبب للضحك، ولكن يمكن أن يكون الأشخاص الموجودون هنا لا ينوون الضحك !، أي أولئك الذين لا يمكن إضحاكهم.

وتكمن المشكلة في أن الصلة بين الموضوع الكوميدي والشخص الضاحك ليست صلة ملزمة أو جبرية، وخاصة عندما يوجد هناك من يضحك، ومن لا ينوي الضحك. وتمتد أسباب هذه الظاهرة لتشمل الظروف التاريخية والقومية والوضع الشخص، إذ أن كل عصر وكل شعب له خاصيات معينة تحدد الحس الفكاهي والكوميدي لديه، وهي الخواص التي قد تبدو أحيانا غير مفهومة، أو غير محسوسة بالنسبة الى العصور والشعوب الأخرى.

كتب (جرتسين) يقول: "إن كتابة تاريخ الضحك لتبدو ممتعة الى أقصى حد.." لكننا لن نكلف أنفسنا - بالطبع - عناء هذا الواجب فقد حددنا هنا لأنفسنا حدودا تبدو من القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين.. وعلى الرغم من مسألة التمايز التاريخي، ومن اختصاصنا فقط بالقرون الثلاثة الأخيرة، إلا أننا لا نملك أن نلتزم الصمت في حضور صعوبات ومشاكل ذلك التمايز التاريخي والقومي.

ومن ثم يمكن القول بأن الضحك الفرنسي يختلف بلذوعته وحدته (أنا طول فرائس مثلا) عن الضحك الألماني الثقيل الى حد ما (كوميديات هاوبتمان) وعن الإنجليزي الذي يكون أحيانا ضحكا وديا وأحيانا أخرى عدوانيا (ديكنز، شو)، أو عن الضحك الروسي المر والمتلاعب (جريبيدوف جوجول، سالتيكوف، شيدرين).. ولا يوجد تقريبا تفسير علمي لهذه الملاحظات، بل انه حتى لا توجد دراسات منفصلة أو اهتمام خاص بها.

ومن الواضح تماما أن الطبقات الاجتماعية تتمتع (في كل النتاجات الخاصة بالثقافات القومية) وعلى اختلافها بحس فكاهي متنوع. وكذا فإنها تمتلك أدوات متنوعة للتعبير عنه. وحتى نضع الحدود السابقة (ما بين الطبقات) يجب أن تتوافر لدينا الدراسة الخاصة بالفروق الفردية أولا..

فمن المحتمل أن يكون الجميع قادرين على ملاحظة أن هناك أناسا أو مجموعات بشرية لديهم استعداد للضحك وآخرين لا يعنيهم هذا بالمرة، ولنحدد لأنفسنا بضعة أمثلة مختارة هاهنا:

فالشباب ميالون - عادة - للضحك أكثر من العجائز، وان أمكن القول بأن الشباب العبوس والكهول المرحين ليسوا عملة نادرة.. والفتيات المراهقات يضحكن ويمرحن كثيرا عند اجتماعهن وذلك بدون سبب أو لأتفه الأسباب.. وفي كل طبقات المجتمع يوجد هؤلاء الناس المولودون فكاهيين أو الأشخاص الظرفاء الموهوبون، وهؤلاء ليسوا بقادرين فقط على الضحك وانما على إضحاك الآخرين أيضا.. ولننظر هنا كيف يصف الأخوان (سوكولوف) رئيس الدير (فاسيلي فاسيليفتش بوجدانف) القادم من منطقة (بيلازرسكي) الريفية: "هو رجل قصير أشقر، في حوالي الثلاثين من عمره، يبدو للوهلة الأولى مشمولا بالبلاهة، لكنه يخفي تحت هذا دهاء ولؤما، فهو يغمز ويلمن بلا انقطاع.. فقد خبر جيدا حياة الإكليروس القروية الى ما تحت الظفر كما يقال. وطعم بها حكاياته التي كان يحكيها بطريقة تجعل المستمعين يدركون خبايا تلميحاته القصصية.. وفي تلك الأثناء فإن (فاسيلي فاسيليفيتش) لم يكن يدع حادثة تمر حتى ولو كانت تمس شخصا ما غير موجود. إلا يستخدمها في إثارة المرح بين مستمعيه..."

وفي موسكو، وفي الخمسينات من قرننا السابق ذائع الصيت (القرن التاسع عشر) عاش الفنان والكاتب والحكاء (إيفان فيدروفيتش جوربا نوف)، ذلك الذي كان يستطيع في أي لحظة أن يرتجل مشاهد من الحياة الموسكوفية، بطريقة كانت تجعل المحيطين به يقهقهون عاليا في آن واحد، متلذذين بملاحظاته الثاقبة وصدق محاكاته.

وهذه الموهبة أو (الضربة) الكوميدية الخاصة نفسها يتمتع بها عدد من الفنانين.. فبمجرد أن ينهض (ك. فارهولاف) ويفتح الباب داخلا الى المنصة، حتى يضج الجميع بضحكات السرور، على الرغم من أنه لم ينطق بعد ولا بكلمة واحدة، وهذا نفس ما كان يحدث مع (إ. إيليانسكي).

ويعد وجود الميل الفكاهي أحدى علامات الموهبة المطبوعة.. فنحن نعرف من مذكرات (جوركي) عن (تولستوي) كيف أنه كان يضحك كثيرا معه وتشيخون.. فعندما وصل البروفسور (مكسيم كافلوفسكي) الى تشيخون في (يدنسي)، وجلسوا ثلاثتهم معه الى المائدة في أحد المطاعم، ظلوا يضحكون حتى لفتوا انتباه جميع الرواد اليهم.

إذن.. ما الذي تقدما لنا الأمثلة السابقة !؟

إنها تؤكد لنا الملاحظة الخاصة بوجود أناس في دنيا الكوميدي قادرين على استدعاء رد الفعل الضاحك باستمرار، وتتضمن الاستجابة لرد الفعل هذا – عموما - ظاهرة إيجابية المنحى، فهي تتضمن مظهرا من مظاهر عشق الحياة والاستمتاع بها، والأسباب هنا قد تكون مختلفة، فإذا كان الضحك هو أحدى العلامات العامة للموهبة الإنسانية، واذا كان المؤملون للضحك هم الموهوبون أو البشر الطبيعيون على العموم.. فإن عدم القابلية للضحك أحيانا ما تجد تفسيرها في البلادة وقسوة القلب.. فالناس غير المؤهلين للضحك سننجدهم مقصرين في أي علاقة أخرى..

فمن الممكن الا تضحك شخصية مثل (بريتشبيف) عند تشيخون، أو الإنسان في علبة (برياكوف) أو العقيد (سكالوزوب)!؟ وهم لذلك مضحكون، فنحن نضحك منهم، ولكن إذا ما تجسدوا في الواقع، فإنه سيصبح من الواضح أن مثل هؤلاء الناس غير مؤهلين للضحك.

على حسب اعتقادي هناك أكثر من مهنة عازلة تصد أصحابها عن موهبة الضحك، وهو ما يكمن في خصوصية تلك المهن التي تطبع صاحبها بشيء من السلطة، وهو ما ينتسب اليه الموظفون البيروقراطيون والمعلمون القساة المتزمتون.. "ففي أرشيف المدينة ما يزالون محتفظين حتى الآن بصورة (بورتريه) (أوجريوم - بورتشيف) وهو رجل متوسط الطول له وجه ما خشبي، واضح أن الابتسامة لم تعرف طريقه أبدا.." هكذا يصور (شدرين) أحد مسؤولي المدينة في كتابه (تاريخ مدينة واحدة)، ولكن (أوجريوم بورتشيف) هذا ليس وحده، إنه نمط "فهذه هي الذات المسدودة بإحكام، هكذا ببساطة ومن كل الوجوه " كما يتحدث "شدرين" عن شخصيات شبيهة.

وللأسف. فإن أمثال أولئك المتيبسين هم من نصادفهم غالبا من عالم التدريس، وهو ما قد تبرره متاعب المهنة العصبية والمتوترة دائما، أو غيرها.. لكن السبب الحقيقي ليس هنا، وانما هو في خصوصية النظام السيكولوجي الواضح في عمل المدرس، وليس من باب الصدفة أن تشيخون قد صور (الرجل في العلبة) معلما!

أما (بيلنسكي) فيكتب في (الحذلقة): "أجل.. أنا دائما أريد التحذلق أمام مدرس اللغة "، فالمعلمون ليسوا مؤهلين لفهم وتمييز ضحك الأطفال الصحي، إنهم لا يمررون النكتة، ولا يقوون أبدا على الابتسام والضحك عملا بالوصية المقررة للمهنة.

لكن عدم القدرة على الضحك يمكن الا يكون فقط دليلا على البلادة، وانما على الشر أو فساد الطوية، وهنا نتذكر (موتسارت وساليري) لـ (بوشكين(:

- موتسارت: الا عزفت لنا شيئا ما لـ (موتسارت).

- العجوز يعزف آريا من (دون جوان) موتسارت يقهقه -

ساليري: وأنت !؟ أتستطيع الضحك بعد؟

موتسارت: أخ ساليري.. أو تقدر أنت على عدم الضحك ؟

ساليري: لا.. بالنسبة لي ليس مضحكا.-

عندما يلطخ صبي رذيل..،

(مادونا) رافائيل..

ليس مضحكا بالنسبة لي.-

عندما يتهكم مهرج حقير.،

فيما هو يهرش من الحساسية،

فلتنقلع من هنا أيها العجوز الأجرب.

موتسارت: (للعجوز) بل توقف.. خذ هذا لك (يناوله كأسا)

هيا اشرب في صحتي.

- يخرج العجوز -

إن موتسارت (بوشكين) هذا العبقري الفرحان قادر على المرح والضحك، بل وأكثر من هذا، إنه قادر على دفع التهريج الى حد المحاكاة التهكمية (النأورة) على إبداعه هو ذاته.

وعلى العكس فإن (ساليري) الحسود، البارد تماما، والأناني حتى آخر رمق، ليس بقادر على الضحك، كنتيجة ضرورية لفساد طويته فسادا عميقا، وبالتالي فهو نفسه ليس مبدعا موهوبا، وبهذا الشأن يقول له (موتسارت):

"إن العبقرية واتيان الشر لا يلتقيان "

وقد يوجد عدم الميل الى الضحك لأسباب أخرى مناقضة تماما، فهناك نوع من البشر الجادين وذوي العمق الذين لا يضحكون لا بسبب القساوة الداخلية، وانما على العكس بسبب المستوى الرفيع الذي تقطنه أرواحهم أو أفكارهم.

في (تورجنيف) يحكي في مذكراته عن الرسام (إيفانوف) ما يلي:

"لم يكن ليشغله الأدب ولا السياسة..، كان يهتم فقط بالقضايا المتعلقة بالفن، بالأخلاق، بالفلسفة..، وقد حدث ذات مرة أن جاءه شخص بدفتر رسوم كاريكاتورية رائعة..، فتفحصها (إيفانوف) طويلا، وفجأة هز رأسه نافيا وهو يقول: لا.. إن المسيح لم يضحك أبدا.." وكان (إيفانوف) وقتها قد انتهى لتوه من لوحته الشهيرة (ظهور المسيح للشعب)..."، لكن (تورجنيف) لم يقل لنا شيئا عن موضوع ذلك الكاريكاتير، وعلى أية حال، فلابد أنه كان شيء ما يتعارض مع كل ذلك العالم الأخلاقي الرفيع، ومع ذلك المزاج الروحاني السامي، الذي كان مستحوذا على (إيفانوف) إذ أن مجال الدين ومجال الضحك ينفي بعضهما الآخر. وفي الأدب الروسي المكتوب، القديم، تغيب ظاهرة الضحك والكوميدي تماما، فالضحك داخل الكنيسة وأثناء الخدمة الربانية كان كفرا من وجهة نظر الدين، إلا أن سمة عدم جواز اجتماع الضحك والمرح مع الديانات السماوية والتي تنطبق على العقيدة المسيحية الرهبانية، لا تنطبق عار العقائد القديمة بكل احتفاليتها الصاخبة، الساتورالية، أو الديونيسيسية.

وبعيدا عن الكنيسة.. كان الشعب دائما ما يستعيد. هجائياته ومرحه على نسق الأعياد البدائية الأولى، وذلك خلال أعياد القديسين والشهداء.. وكانت مجموعات الممثلين المرتجلين، المرحين (سكماروخي) تتجول في انحاء البلاد، وهكذا ظل الشعب يحكي قصصا لعوبا، ويفني أغاني كافرة.

واذا كان المسيح لا يسمح لنفسه بالضحك فإن الشيطان - وعلى العكس - ليضحك بكل سهولة، فهكذا جسد (جوته) شخصية (مفيستوفيليس)، وعلى الرغم من وقاحة ضحكه، إلا أنه يملك طابعا فلسفيا عميقا، فنموذج (مفيستو) قادر على منح القاريء الشعور بالاعجاب أو باللذة الجمالية.

وامتدادا لملاحظاتنا حول الأشخاص غير الضاحكين، نلاحظ بسهولة أن أولئك الغارقين حتى آذانهم رغبة أو حماسة في محيط كامل من الأفكار الصعبة أو العميقة لا يضحكون.. وهنا لابد من التفسير.. لماذا!؟

فمن الواضح - والحال هكذا - أن الضحك لا يجتمع وأي بلوى حقيقية أو كبرى، وهو غير ممكن أيضا عند رؤيتنا الواقعية لعذاب شخص آخر، واذا ما ضحك شخص في هذه الحالة رغما عنه، فنحن نشعر بالاستياء تجاهه، ومثل هذا الضحك إنما يشهد على الانحطاط الخلقي للضاحك.

هذه الملاحظات المختارة لا تقرر حلا لمشكلة سيكولوجية الضحك، بل إنها تثير هذه المشكلة ذاتها، فالنتيجة النهائية يمكن الوصول اليها بعد دراسة العوامل الباعثة للضحك، فعندئذ ستبدو واضحة تلك العمليات النفسية التي تشكل جوهره.

المضحك في الطبيعة

بدأنا بحثنا من لدن كل ذلك الذي لا يكون مضحكا أبدا، وهو ما يضعنا على الفور أمام هذا الذي يمكن أن يكون دلالة على الكوميدي..

وعلى وجه العموم فمن السهل ملاحظة أن الطبيعة من حولنا لا يمكن أن تكون مضحكة.!، فليس هناك ما هو مضحك من الأوراق، الحقول، الجبال، البحار، الأزهار، الحشائش، أو الحبوب.. الخ..، وهو أمر معروف منذ القدم، ولا يحتمل الشك.

يكتب (برجسون): " يمكن أن يكون المنظر الطبيعي جميلا فاتنا، رائعا، حقير المنظر أو قبيحا.. لكنا أبدا لا يكون مضحكا." وهو يسجل لنفسه براءة هذا الاكتشاف قائلا: "كيف لم يأخذ المفكرون حقيقة على هذا القدر من الأهمية في حسابهم على الرغم من بساطتها.."، بينما قد قيلت مثل هذا الفكرة أكثر من مرة، فقبل (برجسون) بحوالي خمسين عاما قالها - مثلا - (تشيرنشيفسكي): "لا يوجد مكان للكوميدي بين الجمادات والنباتات.."، ولنلاحظ أنه لا يتحدث هنا عن الطبيعة بصفة عامة، ولكن فقط عن الجمادات والنباتات فهو لا يتحدث عن مملكة الحيوان..، فبخلاف الأشياء غير العاقلة والنباتات، فإن الحيوان يمكن أن يكون مضحكا، ويفسر (تشيرنشيفسكي) هذا بأن الحيوانات يمكنها أن تكون شبيهة بالبشر، وهو يقول: "إننا نضحك من الحيوانات لأنها تذكرنا بالإنسان وحركاته " وهذا صحيح ولا شك.

من بين الحيوانات جميعها يبدو مضحكا القرد، فهو أقدر الحيوانات على تذكيرنا بالانسان، وأعجب المضحكين من حيث هيئته ومشيته هو البطريق، ومن ثم فليس عبثا أو صدفة أن يسمي (أنا طول فرانس) واحدة من رواياته الهجائية (جزيرة البطاريق)، وتكون الحيوانات الأخرى مضحكة بقدر ما تذكرنا إذا لم يكن بالهيئة فبتعبير الوجه الانساني،فعينا الضفدع الجاحظتان والجبهة المسحوبة العابسة للجرو والأذن المسحوقة للفأر واسنانه الحادة كالشظايا.. كلها تثير فينا الرغبة بالابتسام.

وهناك بعض الحيوانات يكون تشابهها مع الإنسان نتيجة لجهد الترويض، فالكلب الراقص دائما ما يستثير إعجاب الأطفال. ويمكن تحقيق كوميدي الحيوانات إذا ما ألبسناها ثياب الانسان.. السراويل التنورات أو القبعات..

فالدب الباحث عن طعامه في الغابة ليس مضحكا في ذاته،لكن الدب الذي يتجولون به بين القرى، والذي يعرض كيف يسرق الصبيان الحمص،وكيف تضع الفتيات المساحيق والحمرة، هو ما يبعث على الضحك..، وتقوم الفكاهة الموجودة في أعمال أدبية مثل رواية هو فمان (الفلسفة الحياتية للقط مورا)على الكيفية التي رأى بها الفنان أو الكاتب الإنسان باستخدام الحيوان كحجة أو وسيلة لذلك..

وفي كل ما سبق هنا فإن التشابه ما بين الحيوان والإنسان هو تشابه مباشر، بلا وسيط، لكن فكرة (تشيرنشيفسكي) ما تزال تحتفظ بفعاليتها في تلك الحالات التي يكون فيها التشابه متفردا وغير مباشر.. فلماذا تضحكنا الزرافة !؟..النظرة الأولى تقول إنها لا تشبه الإنسان، لكن الربط المتعمق يفيد بأن الرقبة الطويلة النحيلة يمكن أيضا أن تكون للإنسان..، فهذه الخاصية المنفردة وحدها تذكرنا بالإنسان، وهي كافية لأن توقظ فينا الشعور بالضحك.

ومن الصعب القول: لماذا هي مضحكة -مثلا - القطيطة التي تمشي ببطء تجاه هدفها، رافعة ذيلها المفرود تماما الى أعلى !؟ إلا أنه وحتى هنا يرتسم شيء ما إنساني لكننا فقط لا نستطيع تحديده هكذا بسرعة.

ويتطلب زعم (تشيرنشيفسكي) عن أن مملكة النبات لا يمكن أن تثير الضحك، يتطلب بعض التعديلات، فهو صحيح عموما، ولكن ها نحن ننتزع واحدة من نبات الفجل، فإذا بها تذكرنا من حيث تكوينها برأس الإنسان..، هكذا ينهض احتمال الإضحاك قائما، مثل هذا الاستثناء يؤكد صحة النظرية ولا يكذبها.

من الممكن ومن خلال ما قيل حتى الآن، أن نستدعي هنا نتيجة مكررة، وهي أن الكوميدي يرتبط دائما تلميحا أو تصريحا بالانسان، ولذا فإن الطبيعة اللاعاقلة لا تكون مضحكة لأنه ليس هناك من شيء مشترك بينها وبين الانسان.

هنا يجب وضع سؤال: فيما يكمن الفرق بين الطبيعة غير العاقلة والانسان !؟ والاجابة يمكن أن تكون دقيقة تماما: فالإنسان يختلف عن الطبيعة غير العاقلة كونه يوجد لديه الأساس الروحي، ويقصد به العقل والإرادة والعاطفة.

هكذا نصل بطريق المنطق الخالص الى الحدس بأن المضحك يبدو دائما في ارتباط خاص مع الجانب الروحي من حياة الإنسان.

ويبدو هذا للوهلة الأولى - مبهما، إذ أن الإنسان يكون مضحكا أيضا من خلال هيئته الظاهرة (مثل الصلع وما شابه ذلك)، ومهما كان فالحقائق ما تكشف انه دائما هكذا..

وتسمح الملاحظات السابقة بإضافة بعض التعديلات على الملاحظة الخاصة بكوميدي الحيوانات، فالكوميدي في مجال الحياة العاقلة ممكن فقط للإنسان، لكن الكوميدي في المجال الشعوري وحياة الإرادة ممكن أيضا، في عالم الحيوان، فمثلا إذا كان هناك قط ضخم وقوي - فجأة الى الفرار أمام قطة صغيرة شجاعة تحولت الى مطارد، فإن هذا يثير الضحك لأنه يذكرنا بما يمكن أن يقع بين الناس.

وبالمناسبة.. يتضح هنا أن ادعاء بعض الفلاسفة بأن الحيوانات تكون مضحكة في حالة الآلية (بقدر ما تذكرنا بالآلة) هو ادعاء خاطيء، وهو أثر من آثار تطبيق نظرية (برجسون) على الحيوانات.

أما إن الكوميدي يرتبط تقريبا بالحياة الفكرية للإنسان، فهذا ما يقال حتى الآن على سبيل التمهيد والافتراض. وفي هذا المقام ينشأ لدينا سؤال: هل يمكن أن تكون الأشياء مضحكة !؟

يمكن من النظرة الأول القطع بأن الأشياء لا يمكن لها أن تكون مضحكة أبدا..، فهذا ما قرره بعض المفكرين، (كريخمان) مثلا يعتقد بأن أساس الكوميدي يكمن دائما في موقف ما سخيف أو غير معقول.. ولأن الأشياء لا تؤتى أفعالا، فبالتالي لا يمكن أن تصبح كوميدية.. وهو يكتب بالحرف: "لأن الكوميدي يمكن أن ينشأ فقط من فعل سخيف أو غير معقول، فإنه يتأتى بوضوح أن الجمادات لا يمكن أن تكون مضحكة.. وحتى تغدو الأشياء مضحكة، فإن الانسان -حسب اعتقاد (كريخمان) - يجب أن ينسخها -بواسطة - خياله الى جوهر حي..، "عندئذ يمكن للجمادات أن تصبح مضحكة، عندما ينقلها الخيال الى الحياة والذاتية.." ومن السهل أن نثق بأن هذا خاطيء تماما.. فالأشياء يمكنها أن تبدو مضحكة في تلك الأحوال، سواء التي تكون فيها مصنوعة بيد الانسان، أو حينما يعكس الإنسان صانع هذا الشيء فيه -بشكل لا إرادي- عيبا في طبعه هو.. فالموبيليا السخيفة أو أي قبعة أو رداء غير معتاد، بمقدورها أن تثير الضحك.. وينشأ هذا من أنه قد انطبع فيها ذوق صانعها الذي لا يتوافق مع أذواقنا.. وعلى هذا الأساس فإن المضحك في الأشياء يكون مرتبطا بدرجة مع بعض مظاهر النشاط النفسي للانسان.

وما يتصل بالأشياء، يتصل أيضا بآثار العمارة، وهناك منظرون نفوا تماما الكوميدي عن العمارة، لكن بسطاء الناس هكذا لا يفكرون.. واليكم هذا الحديث الذي دار عند أحد البيوت الريفية:

- إيه.. يا أيها الصبي. أين تعيش !؟

- هناك.. وراء الغابة.. يقوم ذلك البيت الصغير المضحك..

حيث نعيش ويتبين هنا أن البيت المقصود غير معتاد وبدرجة استثنائية غير معقول فيما يتعلق بالتناسب فيه أو عدمه، وهو ما عبر من خلاله البناء - الصانع غير الماهر عن نفسه ! هنا يمكن  أن نتذكر بيت (سريبا كفيتش) (3):

"كان من الواضح أن البناء قد ناضل -حين بناه - بلا هوادة ضد ذوق المالك، فالبناء كان متحذلقا يبتغي التناسق والانسجام، أما المالك فقد كان كل هدفه هو راحته، وعلى ما يبدو فإنه ونتيجة لذلك قد أغلق المالك كافة نوافذ الضوء في أحد جوانب البيت ووضع بدلا منها واحدة صغيرة (كوة) لحانت ضرورية ولا شك لإنارة مخزن معتم، وأيضا فإن السقف الهرمي Fronton لم يعد يتوسط البيت أبدا كما أرتاه المهندس، ذلك لأن المالك قد أمر بنزع أحد الأعمدة الجانبية، وبالتالي بقي ثلاثة بدلا من أربعة أعمدة هما كان من المفترض "..

يجدر بنا أن نضيف الى الملاحظة القائلة بأن المضحك يمكن أن يكون هو الانسان فقط أو ما يذكر به، ملاحظة أخرى هي0أن الانسان فقط من يمكنه أن يضحك، وهذا ما لاحظه (أرسطو) أيضا: (من بين جميع الكائنات الحية، فإن الانسان فقط هو المخصوص بالضحك).

وهذه فكرة نصادفها أكثر من مرة، في (برانديز) قد عبر عنها - مثلا - بشكل واضح جدا ودقيق، عندما يقول (إن الانسان هو وحده من يضحك، وعلى أي شيء إنساني فقط).. أما لماذا يكون الانسان وحده هو القادر على الضحك !؟ فهذا ما لن نبحثه الان تفصيلا.

ويمكن للحيوان أن يمرح، يسعد، بل إنه حتى يكشف عن مرحه بحرارة تامة، لكنه لا يملك أن يضحك، فلكي يضحك من الشيء المضحك لابد له من القدرة على اكتشافه، وعلى أن يستطيع - في الأحوال المختلفة - أن يمنح المواقف بعض التقييمات الأخلاقية (كوميدي البخل، الجبن..الخ) وأخيرا.. فإنه وحتى يمكنه تقدير المجاز اللفظي والنادرة (النكتة) فلابد من اتمام عدة عمليات عقلية.. وتلك مواهب لا تمتلكها الحيوانات، فكل التجارب (مثل هواة الكلاب) تؤكد عدم توفيق لمحل التبريرات التي تحاول إثبات العكس.

ملاحظات معتمدة أو معروفة:

يعبر الانسان بصورة شديدة التنوع عن التأثيرات Effects التي تتركها فيه انطباعاته عن العالم الخارجي.. فعندما نخاف نرتعد أو نجفل، فنحن نشحب من الخوف ونبدأ في الارتعاش.. وعندما يخجل الانسان فإن لون وجهه يحمر،ويخفض عينيه، وعل العكس فإنه يفتح عينيه على إتساعهما ويصفق بيديه من الإعجاب، ونحن نبكي عند المصائب، كما نبكي عندما نكون مستشارين شفقة وحنانا..

ولكن ما الذي يضحك الانسان ؟ ونقول هو المضحك.. بالطبع هناك أسباب أخرى لكن هذا هو أكثرها طبيعية وتكرارا، على الرغم من أن الزعم بأن الإنسان "يضحك من المضحك " هو منطق متهافت (تفتالوجيا).. فلا شيء تشرحه تلك الجملة.. وهنا تظهر الحاجة الى إيضاح ما أكثر تفصيلا.

وقد كان على من يحاول أن يقدم مثل هذا الايضاح في السابق، أن يرتكز على موقفين إيضاحيين أو ثلاثة، ومن ثم نذكر بعض الشواهد والملاحظات أملا في أن نكون أكثر دقة..

لنأخذ هذا المثال: محاضر يلقي حديثا ما، لا فرق إن كان هوبروفيسور أو مجرد قاريء لمحاضرة، أو رجل مجتمع أو مشاركا في اجتماع، أو مدرسا يشرح درسا، أو أي شخص آخر.. المهم إنه إنسان يتكلم بحمية متخذا وضعا معينا، يحاول جهده أن يكون مؤثرا، وفجأة تحط على أنفه ذبابه، وهو لا ينثني يبعدها عنه، لكنها ذبابة لحوحة، يبعدها مرة أخرى.. حتى يصطادها أخيرا وفي المرة الثالثة.، تمر ثوان معدودة يتفحصها فيها ثم يلقيها جانبا.. وفي هذه اللحظة فإن أثر الحديث ينمحي، فالمستمعون قد انطلقوا في ضحك ودي.

ولنأخذ مثالا أخر: في حكاية (جوجول) عن الكيفية التي تخاصم فيها إيفان إيفانوفيتش مع إيفان نيقولايفتش... نرى المشهد التالي:

يدخل إيفان نيقولايفتش الى المحكمة مع دعواه ضد إيفانوفيتش لكنه ينحشر في الباب نتيجة سمنته الشديدة، ولا يقوى على التحرك لا للإمام ولا الى الخلف،عندئذ يدفعه أحد المستشارين بركبته في بطنه، ويطرحه للخلف، بعد هذا يفتحون النصف الآخر من الباب، ويدخل إيفان نيقولا يفتش.

والمثال الثالث: نتخيل أنفسنا في سيرك، يظهر المهرج مرتديا (هلاهيل) يلبس سروالا عاديا لكنه لا يثبت على حال، وستره وقبعة وزوج احذية شديد الضخامة، على وجهه ابتسامة عريضة لانسان راض عن نفسه،وخلف ظهره يحمل شيئا ما غريبا نكتشف عند اقترابه من أنظارنا انه باب!!

وفي وسط الحلقة يضع هذا الباب على الأرض في مواجهتنا، ويطرح قدمه بمهارة ليفتحه ويعبر من خلاله، ثم يغلقه باحتراس من جديد، ويكرر هذا كله ثم يخرج حاملا الباب فوق ظهره، ويضحك الجمهور طويلا بود وهو يصفق له..

ما الذي يحدث إذن !؟

وما هو الشيء المشترك بين هذه الحوادث الثلاثة !:؟

في الموقف الأول كان المجتمعون يستمعون باهتمام الى المحاضر، ولكن بظهور الذبابة تشتت اهتمام المستمعين، أو بمعنى أدق انحرف هذا الاهتمام، فهم أصبحوا لا يستمعون الى كلام المحاضر بل ينظرون اليه، فقد انتقل الاهتمام من ملاحظة موضوع روحي الى ملاحظة موضوع مادي.. فاستقبال المستمعين لمضمون الحديث يحتوي على أرضية روحانية ما، وقي ما قد حجبه تصرف المحاضر مع الذبابة، أو بجملة أخرى هي ما تم استبداله بظهور الموضوع المادي.

هذا التبدل أو الانتقال يحدث بصورة غير منتظرة، على الرغم من أن الكل كانوا مستعدين لاستقباله وان كان بصورة غير ملحوظة بالمرة.

وهكذا تحدث بعض الوثبات في الوعي، وهذه الوثبة هي ظهور مفاجيء أثناء العملية،وهو الظهور الذي تم التحضير له 0اخليا بصورة خفية..ففي مقدمة الموقف كان المستمعون مستعدين بواسطة بعض التفاصيل والدقائق الصغيرة للاستجابة الى الضحك، ولكن ليس بالشكل الكافي بعد، فالمحاضر يتخذ وضعا حادا، وهذه الوضعية بعينها مضحكة لأنها تكشف عن أن المحاضر يسعى جاهدا للتأثير في مستمعيه لا بقدر ما لديه من براهين قوية وإنما بقدر قوة تأثيرا الخاص، وحادثة الذبابة إنما هي تؤمن على جاهزية الانفجار.

هذا الانتقال أو التبدل المفاجيء ليس الشرط الوحيد للضحك، فالضحك قد كشف أن حديث المحاضر لم يكن جادا بصورة كافية أو قوية أو أخاذه أو عميقة بحيث يستحوذ على المستمعين كما يجب.

ومن ناحية أخرى، فإنهم لم يضحكوا هكذا وديا أو لمجرد الابتسام كتعبير عن مشاعر التعاطف مع الباحث آو رجل المجتمع المعروف أو تعبيرا عن التسامح مع لحظته الحرجة تلك.. فإنهم لا يتسامحون هنا.. ولقد قامت حادثة الذبابة بتعرية النقص في فعل أو هيئة المحاضر.

ويمكن تعميم هذه الحادثة كأن نقول أن الضحك يحدث في المواقف التي تستبدل فيها البداية أو المدخل الروحاني بفعل مادي غير منتظر يكشف عن بعض العيوب الصغيرة الخافية.

فالضحك يمتلك طابع السخرية، أي أن قيام المحا ضمر بقتل الذبابة التي اعترضت سير مشاعره أو شطحاته العقلية قد كشف ليس فقط عن ضعف حديثه ولكن عن ضعف شخصيته هو ذاته.

أما في قصة جوجول فنحن بإزاء موقف آخر وان كان متشابها في جوهره مع الأول، فإيفان نيقولا يفتش يرغب في العبور من الباب، لكن خاصية جسمه تمنعه، فهو بدين للغاية، فإرادة الإنسان تناطح المعطيات الكاملة لشكله الخارجي، وفي تلك اللحظة التي يبدو فيها فجأة أن المعطيات الخارجية للإنسان أكبر من طموحه، فإن المتفرج أو القاريء يبدأ في الضحك، فهو يرى فقط جسد إيفان نيقولايفتش، وكل ما عداه غائب الآن.. وهكذا إذا كان الطموح الذهني هو المؤثر في الحادثة الأولى، فإنه وفي الحادثة الثانية هو طموح الإرادة.

فالضحك عند جو جول يستدعى ظاهريا بواسطة حشر إيفان نيقولايفتش في الباب، لكن هذا الضحك يكون حاضرا في كافة أساليب القص التي تهيىء له المدخل العضوي المناسب، يذهب إيفان نيقولا يفتش الى المحكمة لا بغرض كشف جريمة مأساوية ما تتطلب عقابا، ولكن يذهب لأجل حجة صعبة. مفتراة ضد صديقه القديم، هذه الحجة نفسها تجسد هزيمته وسقوط طموحه، أيضا فإن بدانته ليست صدفة، فهو بدين نتيجة نمط حياته الكسول والشره، ويحدث انفجار الضحك في تلك اللحظة عندما تتجه رغبة الكاتب والقاريء الى رؤية شيء واحد هو الجانب المادي من الانسان.

في الحادثة الأولى امتلك الطموح المؤثر للكاتب طابعا متعاليا الى حد ما، أما عند جوجول فإن طموح الانسان متدن، وهذا هو ما يحدد الطابع الهجائي للضحك عنده.

وفي المثال الثالث يبدو وكأننا بصدد طموح إرادة ما، لكنه لا يقابل أي نوع من المعوقات، فهذا شخص يعبر خلال بوابة صغيرة بمنتهى السهولة، فأين الكوميدي هنا !: فمن المعروف أن اجتياز مثل هذه البوابة لا يتطلب أي مجهود عقلي أو عصبي فهو فعل حياتي معقول وضروري، فلكي نصل الى الحديقة أو الى مدخل ما لابد من عبور البوابة، لكن في فن التهريج فإن هذا التدبير في ذاته هو فعل لا معقول.

كل شيء مما يحدث في هذا الموقف له نظير. في الحياة اليومية، منذ القدم وفتح الباب بحذر ثم عبور، ومثل ذلك إغلاقه بحذر، إلا أنه يوجد.هنا ما هو أهم، فهذه ليست بوابة واقعية للدخول والخروج، فما يرى هنا بدلا عنها هو فقط الاطار أو الشكل، فالسياج الذي تسمح البوابة باجتيازه غير موجود، كما أنه لا يوجد هنا أي تبدل أو انتقال إذ لا يوجد شيء يتبدل، فالظاهرة هنا تفصل الحياة المادية وتجسدها من لا شيء..

ومازلنا ملزمين بهذه الحادثات لأنها متموضعة على أساس صفوف ووقائع مختلفة. لكنها لا تكشف أن هذه الأصناف المختلفة تحوي قانونا واحدا بحيث يمكن العثور على شيء ما مشترك بينها،، وان كان مازال بإمكاننا إثبات أن الضحك في المواقف الثلاثة مبعثه حضور مفاجيء لأشياء ما ضمنية وهي - بصورة أولية - عيوب غير ملحوظة بالمرة.

من هنا يمكن الوصول الى نتيجة مفادها أن الضحك المعطى لنا هو عقاب طبيعي على شيء ما ذاتي مخفي لدى الإنسان، لكنه يتكشف فجأة كعيب أو نقص ما لديه.

وتفتح العيوب الثلاثة الواردة في الأمثلة السابقة سبيلا واحدا هو سبيل تحويل الاهتمام (بواسطة مثير طبيعي أو متعمد) من الفعل الداخلي للظواهر الى أشكالها الخارجية التي تفضح عدم الاكتمال أو النقص فيها، فيجعلها واضحة بسرعة أمام أعين الجميع.

وهناك تفسير تمهيدي وحيد، ما يزال افتراضيا -أيضا - يجب أن نورده هنا والآن: أن الضحك لا تبعثه كل العيوب والنقائص، ولكن الصغيرة منها فقط، فالرذائل لا يمكن في أي حال أن تكون مادة للكوميديا، فهي مكرسة لأكثر من نوع من أنواع التراجيديا، ونذكر هنا مثلا (بوريس جودانف) بوشكين، و(ريتشارد الثالث) شكسبير..

هذا التفسير أو الملاحظة قد أقرها (أرسطو) من قبل، وكذا ردده أكثر من فيلسوف: "يدور الكوميدي حول الضعف والتفاهات الانسانية " هكذا يقول - مثلا - نك جروثمان.

وتساعدنا تلك الأفكار والملاحظات المقررة سلفا على تفهم المادة الغزيرة والمتنوعة المرتبطة ببحث الضحك والكوميدي، وتسمح لنا أن نهتدي هنا لتفسير متفق عليه.

الهوامش:

1- (اليا ريبين 1844 - 1930) فنان مصور - روسي، واللوحة موجودة بالمتحف الروسي - سان بيتربورج.

2- مصطلح يستخدمه (بروب) للجمع ما بين الكوميدي والمضحك معا..

3- إحدى شخصيات رواية (الأنفس الميتة) لـ (جوجول) والتي يعود اليها المشهد المختار كمثال.. ونلاحظ هنا المعنى الحرفي للاسم سوباكفيتش (الكلبي)!!
reactions

Commentaires

table of contents title