القدس وحقائق متبوت
مكانة القدس في القرآن الكريم والسنة الشريفة
مقدمة:
حفل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بالقدس ما لم يحفلْ بمكانٍ آخر بعد المسجد الحرام. وسرّ ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى خصّ أماكن معينة بالتقديس الخاص به. فالبيت الحرام وكذلك المسجد الأقصى خاصّان لله سبحانه وتعالى. ليس لبشر حقّ الادّعاء بأنهما ملكه أو خاصيته، وقد اتضح ذلك في القرآن الكريم من خلال ربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى في بداية سورة الإسراء حيث يقول سبحانه وتعالى:
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله). سورة الإسراء الآية 1.
وطالما أنّ القرآن الكريم كلام الله الذي أنزل على رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فإنّ ذلك يعني أنّ التقديس الإلهي للقدس يخص عقيدة التوحيد دون سواها وبشكل أخص فإنه يخص الأمة التي أنزل القرآن لها وهي أمة الإسلام. وكل مقدس إلهي اتضح أمره في القرآن الكريم هو مقدس إسلامي، يخص كل منْ أمن بأنْ لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومن انتقص هذا التقديس فإنه ينتقص والعياذ بالله من قدسية الله وما من محب لله ورسوله إلا ويحذر أنْ يقع في هذه الحرمة الواضحة. فالقدس لله ولرسول الله ولأمة الله، فرض على المسلم أن يحافظ عليها ويدافع عنها ويستشهد في سبيلها.
ولما أرسل رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- منحه الله سبحانه نبوة متكاملة فكان خاتم الرسل والأنبياء وإمامهم. ولحرصه -صلى الله عليه وسلم- على توضيح مكانة بيت المقدس فقد جعل من سنته الشريفة زيارة بيت المقدس كسنة إسلامية ترتبط بالحج إلى بيت الله الحرام. وعدم زيارة الحاج إلى بيت المقدس قبل أو بعد حجه للبيت الحرام إخلال بسنن الحج بل إنّ الحج ذاته إلى بيت الله الحرام يعتبر قاصرة إذا لم يقم المسلم الحاج بزيارة بيت المقدس. وقد سار السلف الصالح على هذا النهج فكان التقديس أي زيارة بيت المقدس سنة يطبقها المسلمون إما قبل توجههم إلى مكة أو بعد انتهائهم من تأدية فريضة الحج.
وما آل إليه المسلمون من تقصير واضح تجاه المطلب الإلهي هو انتقاص من قدسية خاصة من خاصيات الله سبحانه وتعالى. ولو قرأ المسلمون ماذا يعني ربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى لما توانوا عن زيارة المسجد الأقصى. ولما رضوا أن يكون حجهم قاصراً.
ولو نظروا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصة بالقدس لأدركوا أنّ حجّهم غير مكتمل وأنّ عليهم واجباً كبيراً تجاه القدس. يبدأ بالحفاظ عليها وتذليل كل العقبات المادية والحدود المصطنعة وينتهي بالجهاد المسلح لتحريرها من قتلة الأنبياء وأعداء دين التوحيد من يهود وصليبيين.
فهل نحن معاً في فهم النداء الإلهي الذي يناشدنا نحن أمة التوحيد أنْ نحافظ على مقدساتنا أن نرعاها ونظللها بنداء الله أكبر ونحن ندور في جنباتها ونسعي بين المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة؟ هل نحن معاً في فهم مقاصد الحديث النبوي الشريف الذي قال إن القدس أرض الرباط وهي القبلة الأولى وثالث الحرمين الشريفين. هل ندرك أن زيارتها والجهاد من أجلها تلبية لنداء إلهي قرآني؟
مقدمة:
حفل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بالقدس ما لم يحفلْ بمكانٍ آخر بعد المسجد الحرام. وسرّ ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى خصّ أماكن معينة بالتقديس الخاص به. فالبيت الحرام وكذلك المسجد الأقصى خاصّان لله سبحانه وتعالى. ليس لبشر حقّ الادّعاء بأنهما ملكه أو خاصيته، وقد اتضح ذلك في القرآن الكريم من خلال ربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى في بداية سورة الإسراء حيث يقول سبحانه وتعالى:
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله). سورة الإسراء الآية 1.
وطالما أنّ القرآن الكريم كلام الله الذي أنزل على رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فإنّ ذلك يعني أنّ التقديس الإلهي للقدس يخص عقيدة التوحيد دون سواها وبشكل أخص فإنه يخص الأمة التي أنزل القرآن لها وهي أمة الإسلام. وكل مقدس إلهي اتضح أمره في القرآن الكريم هو مقدس إسلامي، يخص كل منْ أمن بأنْ لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومن انتقص هذا التقديس فإنه ينتقص والعياذ بالله من قدسية الله وما من محب لله ورسوله إلا ويحذر أنْ يقع في هذه الحرمة الواضحة. فالقدس لله ولرسول الله ولأمة الله، فرض على المسلم أن يحافظ عليها ويدافع عنها ويستشهد في سبيلها.
ولما أرسل رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- منحه الله سبحانه نبوة متكاملة فكان خاتم الرسل والأنبياء وإمامهم. ولحرصه -صلى الله عليه وسلم- على توضيح مكانة بيت المقدس فقد جعل من سنته الشريفة زيارة بيت المقدس كسنة إسلامية ترتبط بالحج إلى بيت الله الحرام. وعدم زيارة الحاج إلى بيت المقدس قبل أو بعد حجه للبيت الحرام إخلال بسنن الحج بل إنّ الحج ذاته إلى بيت الله الحرام يعتبر قاصرة إذا لم يقم المسلم الحاج بزيارة بيت المقدس. وقد سار السلف الصالح على هذا النهج فكان التقديس أي زيارة بيت المقدس سنة يطبقها المسلمون إما قبل توجههم إلى مكة أو بعد انتهائهم من تأدية فريضة الحج.
وما آل إليه المسلمون من تقصير واضح تجاه المطلب الإلهي هو انتقاص من قدسية خاصة من خاصيات الله سبحانه وتعالى. ولو قرأ المسلمون ماذا يعني ربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى لما توانوا عن زيارة المسجد الأقصى. ولما رضوا أن يكون حجهم قاصراً.
ولو نظروا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصة بالقدس لأدركوا أنّ حجّهم غير مكتمل وأنّ عليهم واجباً كبيراً تجاه القدس. يبدأ بالحفاظ عليها وتذليل كل العقبات المادية والحدود المصطنعة وينتهي بالجهاد المسلح لتحريرها من قتلة الأنبياء وأعداء دين التوحيد من يهود وصليبيين.
فهل نحن معاً في فهم النداء الإلهي الذي يناشدنا نحن أمة التوحيد أنْ نحافظ على مقدساتنا أن نرعاها ونظللها بنداء الله أكبر ونحن ندور في جنباتها ونسعي بين المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة؟ هل نحن معاً في فهم مقاصد الحديث النبوي الشريف الذي قال إن القدس أرض الرباط وهي القبلة الأولى وثالث الحرمين الشريفين. هل ندرك أن زيارتها والجهاد من أجلها تلبية لنداء إلهي قرآني؟
المسجد الأقصى والأرض المباركة في القرآن الكريم
وردت في القرآن الكريم آيات عديدة، منها ما صرح بالمسجد الأقصى، ومنها ما صرح بالأرض المباركة أو المقدسة.
يقول تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء الآية 1.
ومن المتفق عليه دون خلاف أو تأويل أنّ المسجد الأقصى في القدس من أرض فلسطين.
وقال تعالى في قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء الآية 71.
وقال تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين) الأنبياء الآية 81. والأرض المباركة هي فلسطين أي ما حول المسجد الأقصى وذلك باتفاق الآراء.
وقال تعالى في قصة سبأ: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين) سبأ 18.
وهو ما كان بين مساكن سبأ في اليمن وبين قرى الشام من العمارة القديمة فباركنا فيها أي الشام ومنها القدس مركز البركة.
وقال تعالى: (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين) التين، الآية 1.
قال ابن عباس: التين بلاد الشام والزيتون بلاد فلسطين وطور سينين الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام. والبلد الأمين مكة.
وقال تعالى: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) المؤمنون 50.
قال ابن عباس: هي بيت المقدس.
وهناك آيات أخرى فسّرها المفسرون على أنّها تدل على بلاد الشام بعامة التي منها بيت المقدس. (انظر سورة الأنبياء 105، ق41، النور 36، النحل17-18، الحديد 13).
فمكانة القدس والأرض المباركة في القرآن الكريم لا تقل أهمية عن مكانة القدس الحرام. ولهذا السبب كان المسجدان مرتبطين بالإسلام ارتباطاً وثيقاً. ولهذا السبب فهم المسلمون الأوائل مسؤولية الدفاع عنهما والجهاد لأجل الحفاظ على قدسيتها. حتى يرث الله الأرض وما عليها.
القدس بين المقياس البشري والمطلق الإلهي
ماذا نفهم من قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) الإسراء الآية1.
فمتى تقدّس الجغرافيا. متى تقدّس الأمكنة؟ فالأوطان تقدس جغرافياً لأنها رمز الوجود الوطني الاجتماعي ورمز التاريخ والحاضر والمستقبل. وفي سبيل هذه الجغرافيا تضحي الشعوب بأبنائها وأموالها لتحافظ على كل ذرة من ترابها.
لكن الأسئلة تتلاحق وتتتالى وتلاحق بعضها البعض، متى تكون الأرض مقدسة؟ وهل كلّ أرض يجب أنْ تكون مقدسة؟ وما المقياس البشري للتقديس وما المقياس الإلهي في ذلك كله؟
ما العالقة بين قدسية المسجد الأقصى وبين اختيار الله له مسرى لرسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ ثم ما العلاقة بينهما وبين بقية الآيات اللاحقة في سورة الإسراء؟ وقد تتكون آلاف الأسئلة حول الجغرافيا و التاريخ. حول العقيدة والقرآن. حول الحاضر والمستقبل. وقد تعجز العقول عن التعبير وتسكت الألسنة أمام الأجوبة. وما المقصود بالمسجد؟ ما معنى الأقصى؟ ولمن المساجد؟
لقد وردت كلمة مسجد بصيغتها المفردة في القرآن الكريم سبع عشرة مرة ووردت في صيغة الجمع ست مرات. منها ما يخص المسجد الحرام، ومنها آية تربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى، ومنها ما يعود على المسجد الأقصى وذلك في الآية السابعة من سورة الإسراء بقوله تعالى: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا).
أما كلمة مساجد فقد وردت مرتبطة بستة مواقع بنسبتها إلى الله سبحانه.
وردت في سورة الحج. وسورة البقرة مرتين وسورة التوبة مرتين وفي سورة الجن وردت مرة واحدة.
يقول تعالى: (ومساجد يذكر فيها اسم الله). سورة الحج، الآية 40.
ويقول تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه). سورة البقرة، الآية 114.
ويقول تعالى: (ما كان للمشركين أنْ يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) سورة التوبة، الآية 17.
ويقول تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد). سورة البقرة، الآية 187.
ويقول تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله). سورة التوبة الآية 18.
ويقول تعالى: (وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً). سورة الجن رقم الآية 18.
فالمسجد وجد للعبادة، لعبادة المسلمين واجتماعهم وانطلاق جندهم الذاهبين في سبيل الله. وليس هو مكاناً للعمل المهني الذي يتقاضى عليه داخله أجراً مالياً لأنّه مسجد الله. ومن يدخله متعبداً فأجره على الله. والمعني ببناء المساجد، المؤمن الذي لا يرجو على عمله أجراً من الناس.
وقد أطلقت كلمة مسجد لتربط العبادة بالسجود لله وحده. والسجود كما علّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدق مرحلة في صلاة المسلم يظهر فيها الخضوع لله عز وجل.
ومن ذلك أنّ المسجد الحرام هو لله وحده وكل عمل يقوم به المسلم تقرباً من الله سبحانه في هذا المسجد، هو عمل خاص بالعالقة بين المسلم وربه.
والملفت للنظر أنّ كلمة مسجد أطلقت على البيت الحرام بعد نزول الوحي على قلب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-. بينما هناك آيات كثيرة يأتي فيها البيت الحرام في سياق علاقات أخرى خصّت في بعض الأحيان النبي إبراهيم عليه السلام. وأحياناً أخرى خصت بعض الأحكام وبعض المفاهيم كالأمن والأمان.
وهذا يعني أنّ المسجد الحرام كمسجد وليس كبيت ارتبط مباشرة بظهور الإسلام وهذا يعني أيضاً أنّ هذا المكان الذي يسمى البيت الحرام يصبح منذ بدء الوحي مسجداً يرتبط بالعبادة وخاصة الصلاة وبمعنى آخر يرتبط بدين الإسلام.
وعلى الرغم من أنّ الأصنام كانت تحيط به من كل جانب وتتعبد لها قريش والقبائل العربية الجاهلية. وما أنْ يعمّ دين الإسلام وتفتح مكة حتى تتهاوى الأصنام بشكل تلقائي. وينظف المسجد الحرام من كل ما هو غريب عن دين التوحيد وكل ما هو مناقض لتعاليم الله.
فالآية التي افتتح الله بها سورة الإسراء (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله....) نزلت بعد بدء الوحي بخمس سنوات وهذا يعني أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان ما يزال في بدء الدعوة. وهو مستضعف لا يستطيع مجابهة مشركي قريش ولا بأية وسيلة سوى وسيلة الصبر والثبات والدعاء إلى الله.
ولو خضنا في معرفة المعاني التي طرحتها واقعة الإسراء وقفنا طويلاً متأملين لماذا اختار الله بيت المقدس ليكون المكان الذي يسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه.
ويدهشنا منذ البداية هذا الرابط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى.
فقمة الإكرام الإلهي لنبيه تأتي بإسرائه إلى المسجد الأقصى. وهنا تكمن قدسية المسجد الأقصى وبيت المقدس. إنها قدسية تبلغ الذروة. فسيد الأنبياء وخاتمهم يسرى به إلى المسجد الأقصى. لأن الأقصى مثل الكعبة خاص لله وحده.
إننا لو افترضنا أنّ المسجد الحرام معروف جغرافياً باسم البيت الحرام. فإنّ ذلك لا ينطبق على المسجد الأقصى، وذلك في العقلية العربية التي كانت سائدة آنذاك وإذا كان مشركو قريش لا يقرّون بأن البيت الحرام سيكون هو نفسه المسجد الحرام الذي يسجد فيه لله وحده فكيف يقرون بالمسجد الأقصى الذي لا تربطهم به روابط عقيدية معينة.
الواقع يقول لنا الكثير حول ذلك. وهو بيتٌ للرب. أو رمز لديانة إبراهيم التوحيدية عليه السلام، والتي انحرف عنها الأعراب، يعتبر رمزاً لارتباط الأعراب أنفسهم بمركز معنوي وتجاري لسيادة قريش سياسياً وتجارياً. وبمعنى من المعاني فالبيت الحرام محور الجزيرة العربية، والمركز المهم الذي يرتبط العرب به. وطالما أنه أصبح يعج بالأصنام التي تمثل كافة القبائل العربية فإنه في نظر العرب آنذاك أهم مركز تجاري يمثل العرب في مواجهة ومنافسة الحضارات الدينية المحيطة بالجزيرة العربية كالأحباش في الجنوب والفرس في الشرق والشمال والروم في الغرب والشمال. وقد كان ارتباط البيت الحرام بشخصية النبي إبراهيم -عليه السلام- وكذلك بشخصية ابنه إسماعيل -عليه السلام- له الأثر البالغ في نظر العرب. خاصة أنهم يعتبرون أنفسهم من نسل إسماعيل وإبراهيم أبي الأنبياء جميعاً.
ومن هنا فإنّ إطلاق تسمية مسجد على البيت الحرام في القرآن الكريم تعني بالحتمية أنّ هذا المكان سيعود إلى ما كان عليه زمن إبراهيم عليه السلام مركزاً دينياً توحيداً يشع على العالم بنور الهداية وجمع كلمة الموحدين. على الرغم من كلّ أشكال الإفساد والوثنية التي طرأت عليه. أو على محيطه.
إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر فالمسجد الحرام يعمره مادياً وروحياً ومعنوياً الموحدون المؤمنون بالله واليوم الآخر. وهذا لا ينطبق على قريش وعلى العرب المشركين الذين وجدوا قبل أنْ يعمّ الإسلام المنطقة. إنما ينطبق على عباد مسلمين لهم صفات تحدث عنها القرآن في أكثر من آية ، وفي أكثر من موقع في القرآن الكريم.
إنّ كل ذلك لا يصعب على الفهم في ذلك السياق التاريخي، أو الوضع الآني الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولكن الذي يصعب على الفهم هو ورود تسمية المسجد الأقصى في تلك الآية التي ربطت المسجد الحرام بالمسجد الأقصى فهل كان العرب يعرفون ما يسمى المسجد الأقصى؟ قد يعرف بعض رجالهم وتجارهم أن في أرض فلسطين معبداً أو معابد أقامها أهل البلاد، ولكن لا أحد يعرف أن هناك مسجداً يدعى المسجد الأقصى فذكر المسجد الأقصى في سورة الإسراء، وفي الظرف الزمني الذي كان فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعلله إلا الله سبحانه وتعالى وربط معاني القرآن الكريم وأسباب نزوله ودراسة سياق نصه مجتمعاً وليس مقتطعاً إضافة لارتباط هذا المسجد بالعامل البشري والعقيدي.
فالمسجد الأقصى حين نزول سورة الإسراء على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو جغرافياً جزء من أرض مباركة تسمى فلسطين وما جاورها ظلّت من قبل الرومان منذ 70 ق.م وحتى ظهور الإسلام. وقبل هذا التاريخ كان فيها بعض اليهود وفي مرحلة من المراحل بلغ وجودهم فيها إقامة دويلة حكموا فيها بعض اليهود وفي مرحلة بلغ وجودهم فيها إقامة دويلة حكموا فيها من قبل النبي داود وابنه سليمان عليه السلام.
وفي الجانب العقيدي ارتبط بهذا المكان المقدس عدد من الأنبياء. وباعتبار أنّ مباركة هذه الأرض خاصة بالله، فإنّ حكمته اقتضت أنْ يكون للأرض المباركة شأن فريد من نوعه لدى الأنبياء منذ إبراهيم -عليه السلام-. وأكثر من ارتبط عقيدياً بها النبي إبراهيم أولاً ثم داود وسليمان وعيسى وزكريا ويحيى عليهم السلام. فهي إذاً موطن إشعاع توحيدي نبوي. فكما كان المسجد الحرام زمن إبراهيم وإسماعيل موطن إشعاع توحيدي، كذلك كانت الأرض المباركة وفيها المسجد الأقصى.
إن هذا كله يجعلنا نتوقف متأملين في سورة الإسراء التي أشارت صراحة إلى المسجد الأقصى والأرض المباركة حوله.
لم يخصْ القرآن الكريم سوى مكانين مقدسين تقديساً إلهياً المسجد الحرام والمسجد الأقصى. وهما في ذلك رمزان وحيدان للتقديس الإلهي. وما يخص الله سبحانه، من المحتم أن يكون توحيدياً نظيفاً من أية علامة للشرك والوثنية واقتضت الحكمة الإلهية أن ينظف المسجد الحرام من كل مظاهر تلك الوثنية ويبقى كذلك إلى وقتنا الحاضر.
أما المسجد الأقصى فقد دخله المسلمون أول مرة زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وأزيلت كل معالم الشرك والوثنية منه إلى حين. حيث إنّ مظاهر الفساد عادت مرة أخرى إلى الأرض المباركة على أيدي المتهوّدين الذين هم أشد عداوة من كل الأطراف لدين التوحيد والإسلام.
إنّ اليهود اليوم يدعون أنّ المسجد الأقصى أقيم فوق هيكل خاص بهم ويدّعون أن مدينة القدس هي عاصمة ملكهم الغابر. ويدعون أن هذا الهيكل بناه النبي سليمان عليه السلام.
إذا عدنا إلى واقعة الإسراء نرى أنّ الله سبحانه وتعالى اختار الأرض المباركة دون سواها كي يسرى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليها. لأنها أرض مباركة منذ ما قبل إبراهيم عليه السلام. وكان لإسرائه إليها معنى كبير من معاني اكتمال النبوة. فهذه الأرض شهدت نبوات توحيدية. وحتى ينصف دين التوحيد بشكله العام فقد أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى.
وإسراؤه يعني أنّ الإسلام بوجهه القرآني جاء لينسخ ما قبله ويضمه في بوتقته.
فالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بعث للناس كافة وعلى جميع الشعوب أنْ تنتمي لهذا الدين الشمولي. فهو دين الأنبياء جميعاً والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أولى بأخوته من الأنبياء من سائر البشر حتى أقوامهم وأهلهم.
ولذلك كان اختيار بيت المقدس للإسراء اختياراً ربانياً خاصاً ليؤكّد على وحدة الدين التي حاول اليهود والمشركون تدميرها. ولكن حكمت الله اقتضت أنْ يرد هؤلاء رداً عنيفاً بمبعث محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد اتفق العلماء أنّ من حكمة الإسراء تثبيت الديانة التوحيدية السماوية في القدس الشريف أو إيحاء بأنّ القدس ستبقى معقل التوحيد وإنْ حل فيه الفرس عبدة النار، وفيها إنذار وتحذير لليهود الذين غدروا بأتباع المسيح وكفروا بالإنجيل ولعل في أهل القدس الذين قتلهم اليهود قسيسين ورهباناً مؤمنين موحدين ينتظرون بعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ليؤمنوا به كما أخبرهم عليه السلام في الإنجيل الصحيح. أقول هذا لأنّ الله تعالى ذكر قصة الإسراء في آية واحدة في سورة الإسراء –ثم أخذ بذكر فضائح اليهود وجرائمهم ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم فربما ظن القارئ أنّ الآيتين ليس بينهما رابط والأمر ليس كذلك فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أنّ الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس ليشير إلى أنّ اليهود الذين تسلطوا على بيت المقدس عند تعاونهم مع الفرس المجوس سوف يجلون عن القدس لأنه مكان مقدس ينزه عن أمثالهم لما ارتكبوا من الجرائم فيه. وأن المسجد الأقصى سوف يتولى حمايته أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- ويجمع لهم مركزي دعوة التوحيد.
بيت المقدس في السنة النبوية الشريفة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
اشتملت السنة النبوية الشريفة وسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كثير من الأحاديث الخاصة بالقدس والمسجد الأقصى.
فتحدث بعضها عن قدم المسجد الأقصى وأصل بنائه، وبعضها عن فضائل بيت المقدس ومكانته. وبعضها الثالث تحدث عن نهاية أمره وصراع المسلمين مع اليهود لأجله.
وإضافة لما ذكر من أحاديث نبوية شريفة فإن في سيرته الكثير من القضايا المرتبطة ببيت المقدس كرسالته إلى قيصر الروم هرقل. وكالحديث عن السرايا المجاهدة التي أرادها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تتجه صوب الأرض المباركة فلسطين والمسجد الأقصى.
1- وعن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس فقال أرض المنشر والمحشر ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه قالت أرأيت من لم يطقْ أن يتحمل إليه أو يأتيه؟ قال فليهد إليه زيتاً يسرج فيه فإن من أهدى له كان كمن صلى فيه (رواه أحمد 6/463 وابن ماجه 1/429).
2- في فضل العبادة والصلاة ببيت المقدس: روى الإمام أحمد عن معقل بن أبي معقل الأسدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط4/210. والقبلتان هما الكعبة والمسجد الأقصى.
3- عن عبد الله بن الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو مخاصر فتى من قريش يزن بشرب الخمر. فقلت بلغني عنك حديث. أنه من أتى بيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه. ثم قال عبد الله بن عمرو إني لا أحل لأحد أن يقول عليّ ما لم أقل. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ..... الحديث المسند 2/176.
4- وجاء في الحديث: من أهلّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر الله ما تقدم من ذنبه (أو وجبت له الجنة) رواه أبو داود في سننه. وفي سنن ابن ماجه (من أهلّ بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب). وقد أحرم منه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وابنه عبد الله كما روي ذلك في الأنس الجليل الصفحة 146.
5- عن جابر أنّ رجلاً قال يا رسول الله أيّ الخلق أول دخولاً إلى الجنة؟ قال الأنبياء قال ثم من؟ قال الشهداء قال ثم من قال مؤذنو المسجد الحرام. قال ثم من قال مؤذنو بيت المقدس قال ثم من قال مؤذنو مسجدي هذا قال ثم من قال سائر المؤذنين على قدر أعمالهم. (الشفا في التعريف بحقوق المصطفى ص 148).
6- وروى البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه (الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة) قال البزار إسناده حسن (الفتح 3/67).
7- قال صلى الله عليه وسلم: لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسجد الأقصى. وفي رواية أخرى: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي والحديث الأول رواه البخاري عن الوهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه ﺠ 1189 وهو في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة– باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. والثاني ﺠ 1197 باب مسجد بيت المقدس من كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عبد الملك بن عمير عن قزعة بن يحيى مولى زياد ابن أبي سفيان قال سمعت أبا سعيد الخدري... (الحديث)
فهاتان الروايتان من أهمّ الروايات وأدقها وهما تكفيان صحة الحديث. والحديث يدلّ على مكانة المسجد الأقصى في نفوس المسلمين. بل مكانة المسجد الأقصى في الشرع الإسلامي. وبالتالي يدلّ على منزلة المكان الذي بُنِي فيه المسجد الأقصى ومكانة ما حوله من الأصقاع لأنّ الله سبحانه وتعالى بارك فيها بنص القرآن الكريم فهو ثالث ثلاثة مساجد يضاعف فيها ثواب المسلم والقدس التي تضم المسجد الأقصى ثالثة ثلاث مدن هن أركان أمة الإسلام وقد جاء في مسند ابن حنبل 6/396. عن أبي بصرة قال: لقيت أبا هريرة وهو يسير إلى مسجد الطور ليصلي فيه قال: فقلت له: لو أدركتك قبل أن ترتحل ما ارتحلت. قال: ولم؟ قال فقلت الحديث...
أي أنّه لا تشد الرحال إلا إلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد المدينة وأبو هريرة كان قد شد رحاله إلى غير هذه المساجد الثلاثة.
وقد حاول بعض المستشرقين ومنهم يهود التشكيك في صحة الحديث –لا تشد الرحال– وهدف اليهود من الطعن في هذا الحديث أنْ لا تكون للمسجد الأقصى مكانة في نفوس المسلمين.
ولعلّ في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإسراء من الإرشاد ما يكفينا من قول حول مكانة المسجد الأقصى.
فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أتيت بالبراق –وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه، قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء –أي عند باب المسجد. ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة. الحديث في صحيح البخاري –من كتاب الإيمان– باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض الصلوات برقم 162.
وفي الأحاديث الصحيحة في الإسراء ما رواه الإمام أحمد في المسند 5/387 و1/309 ففي حديث الإسراء معانٍ كثيرة تلفت النظر.
أولهما: أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أُسرِي به إلى مكان مقدس قدّسه الله قبل خلق البشر.
ثانيهما: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤم الأنبياء بإرادته بل إنّه انتظر مثل بقية الناس ليأتي من يؤم بالصلاة وهذا دليل تواضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ناحية ودليل انتظاره لأوامر الله سبحانه وتعالى عن طريق جبريل.
وقد أخذه جبريل وقدّمه ليصلّي إماماً بالناس. وهو لم يعرفْ بمن يؤم. فقال له جبريل إنهم الأنبياء الذين بعثهم الله.
وفي هذا دلالة على مسألة هامة. وهي أنّ بيت المقدس الذي صلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إماماً للأنبياء هو مكان رباني يريد الله أنْ تتم فيه النبوات وتختتم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا هو التحدي الرباني لكل من بعث الله لهم بأنبياء وجحدوهم وقتلوا بعضهم وانحرفوا عن عقيدتهم. فبصلاة محمد -صلى الله عليه وسلم- إماماً بالأنبياء يعني أن ديانة التوحيد سيقودها هذا النبي وأن المسجد الأقصى الذي هو مقدس رباني أولى بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وبمن آمن معه من المسلمين الموحدين الذين أناط الله بهم مسؤولية حماية بيته المقدس.
المسجد الأقصى القبلة الأولى:
روى البخاري عن البراء بن عازب أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو أخواله من الأنصار وأنّه صلى قِبَلَ بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت الحرام. وأنه صلى عند وصوله المدينة أول صلاة فيها صلاة العصر. وصلى معه قوم. فخرج رجل ممّن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ مكة فداروا كما هم قِبَلَ البيت وكان اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل البيت المقدس. ولما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك. (كتاب الإيمان باب الصلاة من الإيمان).
ومن طريق أخرى عن البراء بن عازب كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً. وكان رسول الله يحب أنْ يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون). البقرة الآية 144. فتوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود –ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وهذا الحديث وكذلك آيات القرآن الكريم تفيد كثيراً في معرفة جواز الصلاة وثوابها نحو بيت المقدس. فالله تعالى يقول: ما كان الله ليضيع إيمانكم. أي صلاتكم إلى بيت المقدس.
ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس:
عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إنّ مكة بلد عظيم عظّمه الله وعظّم حرمته وحفّها بالملائكة قبل أنْ يخلق شيئاً من الأرض يومئذٍ كلها بألف عام ووصلها بالمدينة ووصل المدينة ببيت المقدس ثم خلق الأرض بعد ألف عام خلقاً واحداً.
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال لصعصعة: نعم المسكن بيت المقدس. القائم فيه كالمجاهد في سبيل الله وليأتِيَنّ على الناس زمن يقول أحدهم ليتني لبنة من لبنات بيت المقدس.
وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل 5/269 (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من البلاء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك قالوا يا رسول الله وأين هم قال في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس).
حكمة إلهية في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم:
تذكر المصادر الإسلامية أنّ كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل فخربوا كثيراً من بلاده أي بلاد الشام ثم أستبطأ كسرى أميره فأراد قتله وتولية غيره فاطلع أميره على ذلك فباطن هرقل واصطلح معه على كسرى وانهزَم عنه بجنود الفرس فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكراً لله تعالى على ذلك. وهذه القصة تشير إلى آخر غزو فارسي على بلاد الشام والقدس واحتفال النصارى بذلك.
وروى البخاري في كتاب بدء الوحي (باب 6) أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام بعد العودة من الحديبية. ويرى المؤرخون أنّ الكتاب أرسل في المحرم من بداية السنة السابعة للهجرة. وكان هرقل في بيت المقدس. وقد جاء في كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: باسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإنْ توليت فإن إثم الأكارين عليك (وفي رواية الفريسيين).
وإذا عدنا إلى قوله تعالى في سورة الروم: (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) (الروم 2-5).
نرى أنّ القرآن الكريم يخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنّ الروم سيعيدون الكرة على الفرس وسيغلبونهم بعد بضع سنين من انكسارهم أمام الفرس. وقد تمّت غلبة الروم على الفرس. وبعدها جاء هرقل من حمص إلى بيت المقدس. وكانت غلبة الروم ليست بقوتهم إنّما هي إرادة الله كي يفرح المؤمنون بنصر الله. وجاء كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل وهو ببيت المقدس. والواقع أنّ الروم رفضوا أنْ يسلموا أو يدفعوا جزية أو ما شابه ذلك. وكان ذلك يعني بدء الحرب بين المسلمين والرومان. والواقع أنّ وجود هرقل في القدس أثناء ورود كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه فيه دلالة وإرهاص بأنّ هذا البيت بيت المقدس سيؤول إلى المسلمين الموحدين.
وقد جاء في الروايات والحديث الصحيح الذي رواه البخاري في كتاب بدء الوحي ج5 قال هرقل قل لأبي سفيان فإنْ كان ما تقول فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنّه خارج لم أكن أظن أنه منكم.
وحسب الروايات أنّ المقصود بموضع قدمي هرقل بيت المقدس وفلسطين. وحسب بعض الروايات أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لواحدٍ من صحابته أعدد ستاً بعد وفاتي وتحرر القدس.
والواقع أنّ القدس حررت في السنة السادسة للهجرة في زمن الخليفة عمر بن الخطاب وامتلك المسلمون موضع قدمي هرقل ملك الروم.
ولعلّ أهمّ ما جاء في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الأحاديث التي تتحدث عن القدس كأرض للرباط والجهاد. وكأرض ستشهد الملحمة الكبرى بين المسلمين واليهود.
فقد روي في صحيح البخاري الجزء 3 كتاب الجهاد والسير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
وقال عمر -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله.
ومما تقدّم من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ندرك أنّ للقدس وتحديداً للمسجد الأقصى مكانة في عقيدة الإسلام. وهذه المكانة لا تقلّ أهمية عن مكانة المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف. وهي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وهي المكان الذي اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسجد الذي يؤم فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأنبياء. وهو كذلك أرض المحشر والمنشر وأرض الملحمة العقيدية الكبرى التي ينتصر فيها المسلمون على اليهود.
أرض فلسطين محط أنظار المسلمين زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نستطيع أنْ نقول إنّ التوجّه نحو تحرير بيت المقدس زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدأ حينما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكتابه إلى هرقل ملك الروم وهو في بيت المقدس. وكان آنذاك يحتفل بالنصر على الفرس عام 628م الذي يوافق تماماً أواخر السنة السادسة أو أوائل السنة السابعة للهجرة لأن الهجرة النبوية كانت في 23 من الشهر التاسع عام 622م واحتفال هرقل كان في 14/9 سنة 628م الذي يوافق تماماً أواخر السنة السادسة أو أوائل السنة السابعة للهجرة. وقد ذكر البخاري في كتاب بدء الوحي باب 6 أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام بعد العودة من الحديبية.وقد بدأت الأنظار تتجه نحو تحرير الأقصى وفلسطين منذ حادثة الإسراء وتعرف المسلمين على منزلة بيت المقدس في عقيدتهم وبعد أنْ أدركوا معنى الربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى.
ومنذ السنة الخامسة للهجرة بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ببعث السرايا على الطريق بين المدينة والشام. في السنة الخامسة كانت غزوة دومة الجندل وهي مكان على بعد 450 كيلومتراً شمال تيماء، وفي السنة السادسة بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعثمان بن عفان على رأس سرية مرة أخرى إلى دومة الجندل وفي السنة السابعة كانت غزوة خيبر لأنّ يهودها كانوا يهدّدون الطريق إلى الشام، وفي السنة الثامنة كانت سرية كعب الغفاري إلى ذات أطلاح من ناحية الشام وهو في منطقة وادي عربة، وفي السنة الثامنة نفسها كانت غزوة ذات السلاسل بقيادة عمرو بن العاص، وفي السنة نفسها كانت سرية زيد بن حارثة إلى حدود فلسطين ثم جاءت غزوة مؤتة وتبوك وفي السنة الحادية عشرة كانت سرية أسامة بن زيد وقد أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يصل إلى دير البلح في جنوب فلسطين لكن الغزوة توقّفت فترة بسبب وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وفيما بعد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثاً إلى الشام وأمّرَ عليهم أسامة بن زيد بن حارثة وأمره أنْ يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين فتجهّز الناس وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون.
أمّا ما كان من غزوة مؤتة فإنّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- بعث إلى الشام جيشاً قوامه ثلاثة آلاف وذلك في سنة ثمان للهجرة وعلى رأسه زيد بن حارثة، وقد وصى الرسول صلى الله عليه وسلم إنْ قتل زيد فجعفر بن أبي طالب يتسلّم قيادة الجيش فإنْ قتل يتسلم مكانه عبد الله بن رواحة. وقد واجه الثلاثة آلاف جيشاً للروم قوامه مائة ألف فاحتار المسلمون في أمرهم ودارت معركة غير متكافئة فاستشهد القادة الثلاثة حتى تسلم الراية خالد بن الوليد فانحاز عن الحرب وقفل راجعاً إلى المدينة بعد أنْ كاد يفنى جيش المسلمين. وقد حدثت معركة مؤتة قبل فتح مكة لتؤكد للمشركين قوة روح الإسلام ولتؤكد أيضاً أنّ أرض الشام وبيت المقدس لها من الأهمية ما يدفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبعث الجيوش إليها ومقارعة الروم كمقدمة لتحريرها.
القدس ووعد الله بالنصر وتحريرها من اليهود
لقد توقّفنا عند محطات هامة بشأن القدس والأرض المباركة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. واستكمالاً لما جاء فإنّنا نتوقّف هنا عند الآيات القرآنية الكريمة التي لحقت فاتحة سورة الإسراء.
لقد شكّلت القدس كما رأينا في القرآن والسنة مسألة أساسية في حياة العقيدة الإسلامية. ولما كانت كذلك فإنّ الحثّ على تحريرها أمرٌ رباني مفروغ منه لأنها كما قلنا القبلة الأولى وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولها ما للمسجد الحرام ومكة من شأن وأهمية في حياة المسلمين.
ولو عدنا إلى آيات القرآن الكريم في سورة الإسراء ونظرنا بدقة في قول الله تعالى لوجدنا أنّ الآيات الأولى من هذه السورة تشير إلى مسألة هامة خطرة.
يقول تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) الإسراء من الآية 1.
ويقول تعالى: (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً) (الإسراء 7).
لقد عرفنا أنّ المسجد المقصود في الآية الأولى هو المسجد الأقصى. فما المقصود بالمسجد في الآية السابعة؟ وما العلاقة بين مجمل الآيات الأولى من سورة الإسراء؟
يقول تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير. وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً. ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكورا. وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً. فإذا جاء وعد أولهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً. ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً. إنْ أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإنْ أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً. عسى ربكم أنْ يرحمكم وإنْ عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً. إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً) (الإسراء 1-9).
ويقول تعالى في الآية 104 من سورة الإسراء نفسها: (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً).
فقد أجمع المفسّرون أنّ سورة الإسراء مكية نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في مكة. وأكثر التواريخ اتفاقاً ما قاله البيهقي عن ابن شهاب -رضي الله عنه- قال أُسرِي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بستة عشر شهراً وبعضهم قال قبل الهجرة بسنة.
على أية حال فالمتفق عليه أنّ سورة الإسراء مكية. وعلى هذا فهناك أسئلة كثيرة حولها وحول تاريخ نزولها والمعنى من ذلك.
1- عندما نزلت هذه الآية وصفت البيت الحرام بالمسجد الحرام ووصفت بيت المقدس بالمسجد الأقصى. وقد كان المسجد الحرام يعجّ بمئات الأصنام وعلى رأسها هبل واللات والعزى ومناة وأساف ونائلة. ويُقال إنّ البيت الحرام كان حوله أكثر من 360 صنماً على عدد قبائل العرب. وكان الأقصى محتلاً من قِبَل الروم وفي القدس معبد مهمَل بينما كانت كنيسة القيامة هي المكان المقدّس بالنسبة للرومان المنتصرين آنذاك. فطالما أنّ البيت الحرام كان يعجّ بالأصنام فكيف يصفه القرآن الكريم بالمسجد الحرام ثم كيف يوصف بيت المقدس بالمسجد الأقصى وهو مهمل لا أحد يدري بقدسيته؟ والواقع أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعرّض لأذى قريش فالتجأ إلى الطائف ولكن أهل الطائف لاحقوه فأدموا قدميه فالتجأ إلى الله بالدعاء أنْ يفرّج كربه وبعد عودته من الطائف إلى مكة حدث الإسراء ونزلت سورة الإسراء أيضاً.
2- عندما نزلت سورة الإسراء على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ضعيفاً وحوله المسلمون ضعفاء لا يستطيعون المقاومة أمام طغيان قريش فكانوا عبيداً وفقراء ومستضعفين وقليلي الحيلة والبيت الحرام يعبث فيه أبناء قريش فساداً.
3- سميت هذه السورة بتسمية أخرى هي سورة بني إسرائيل.
4- على الرغم من اسمها المعروف سورة الإسراء فإنّها لم تتحدّث عن الإسراء إلا في آيتها الأولى والآيات التي تليها كانت عن بني إسرائيل وموسى عليه السلام. إذاً فما العلاقة بين الآية الأولى وبقية الآيات.
لو عدنا إلى الأحداث التي مرت بها سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لوجدنا أنّ المسلمين انتصروا على قريش وعادت مكة للمسلمين ثم أخلي البيت الحرام من الأصنام بعد أنْ كسرت وحطمت وطهر البيت الحرام من كل مظاهر الوثنية والخمور والنجاسات ورفع بلال صوته ليؤذن بالناس ليصلوا في هذا المسجد العظيم.
فوصف القرآن الكريم للبيت الحرام بالمسجد الحرام في سورة الإسراء جاء إرهاصاً ربانياً للمستقبل بأنّ البيت الحرام سيحرّر من الأصنام ويعود مسجداً للموحّدين من جديد كما كان زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام. وقد قلنا ذلك سابقاً.
وإذا نظرنا أيضاً إلى وصف القرآن الكريم لبيت المقدس بالمسجد الأقصى لرأينا أنّه إرهاص للمستقبل بأنّ هذا المكان المقدس سيحرّره المسلمون. وفعلاً تمّ تحرير بيت المقدس على أيدي المسلمين بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بست سنوات أي في زمن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
وقد اختلف المفسّرون المسلمون في تفسير هذه الآيات اختلافاً بيّناً، فمنهم من قال إنّ الله سلط على بني إسرائيل جالوت وجنوده. ومنهم من قال إنّ نبوخذ نصر أو العمالقة أو سنحاريب أو أهل فارس والروم ومن قائل العرب.
كما رجح عند كثير من المفسرين أنّ اليهود أفسدوا بقتلهم أنبياءهم وأنّ نبوخذ نصر البابلي هو الذي قضى على علوهم وإفسادهم الأول. ثم أفسدوا ثانية بقتلهم زكريا ويحيى عليهما السلام وأن الرومان هم الذين قضوا على علوهم وإفسادهم الثاني.
ولو دقّقنا في الآيات الكريمة التسع من سورة الإسراء لوجدنا ضعف ما جاء به المفسرون المسلمون. لا سيما إذا عدنا إلى دراسة طبيعة الصراع بين المسلمين واليهود على مر التاريخ. فالروايات التي رواها المفسرون لم تستندْ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والواقع أن للمفسّرين عذرهم لأنّهم لم يتنبأوا بما ستؤول إليه الأمور من ضعفٍ للدولة الإسلامية وقيام كيان اليهود في فلسطين. فالمفسّرون لم يكونوا أمام واقعنا الحاضر من علوّ اليهود وإفسادهم في الأرض واستيلائهم من جديد على بيت المقدس ففسّروا الآيات بأن أحداثها قد وقعت.
وقد أشرنا إلى أنّ مكة لم تكنْ للمسلمين وأنّ الكعبة لم تكنْ مسجداً. وإنما كانت بيتاً تقوم حوله الأصنام ويطوف به المشركون. ولم يكنْ هناك معبد داود وسليمان في دولة يهودا مسجداً بالمعنى الإسلامي. إنّما كان المعبد معبداً يأكل بنو إسرائيل من حوله السحت ويعيثون فساداً بل يضعون فيه الأصنام ويبيعون فيه الحمام ويجتمع به اللصوص كما قال السيد المسيح في الإنجيل...
ولكن الله -عز وجل- تحدّث عن هذا الإسراء بأنّه انتقالٌ من مسجدٍ إلى مسجد تبشيراً للمسلمين بأنّ أمرهم سيعلو بحيث يصبح البلد الذي استضعفوا فيه وهانوا وحلت حرماتهم فيه مسجداً ودار أمن وسلام.
وحسب الرأي المنشور في مجلة الأزهر في تفسير آية "فإذا وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا": لا تنطبق هذه المرة تمام الانطباق إلا على الدور الذي قاموا به على عهد النبي وأصحابه وعاقبهم الله وسلّط عليهم فيه. ثم يقول هذه المرة هي المرة الأولى ولا تنطبق أوصافهم إلا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك للأسباب التالية:
1- فهم أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحقون شرف هذه النسبة (عباداً لنا) لأنهم الموحّدون أتباع عبده الذي ورد في أو السورة وهو الرسول الذي أسري به. أما أتباع نبوخذ نصر وسابور وسنحاريب فاضطربت فيهم الأقوال فقد كانوا عبّاد وثن ولا يستحقون شرف الاختصاص بالله في قوله عز وجل –لنا-.
2- وهم الذين وصفهم الله في كتابه أشداء على الكفار رحماء بينهم.
3- وهم الذين لم يكلفهم تأديب اليهود إلا أن جاسوا خلال الديار.
أما أتباع بختنصر فقد ذكروا أنّه قتل منهم سبعين ألفاً وأنّه دخل بيت المقدس في أهله وسلب حليه. فهو اجتياح وليس جوساً. ويستمرّ رأي الأزهر على المنوال نفسه ليؤكد عنوان المقالة سورة الإسراء تقضي نهاية إسرائيل.
بعد ذلك نود أنْ نقول:
1- يعلو بنو إسرائيل في الأرض مرتين مصحوبتين بإفساد. ومن المؤكد أنّ العلو الذي عاشوه في ظلّ بعض رسلهم لم يصحبه إفساد.
2- ينتج عن هذا العلو والإفساد صراع ودمار وخراب في الوقت الذي يضع فيه القرآن بني إسرائيل طرفاً واضحاً وأكيداً في المرتين. فإنّه يؤكد أيضاً على وجود طرف آخر يتكرر نفسه في المرتين تماماً كما يتكرر بنو إسرائيل كطرف. وقد ذكر القرآن الكريم هذا الطرف باسمه مرة واحدة في أول الآيات عباداً لنا ثم استمرت الإشارة إليه بضمير الغائب إلى آخر السياق تأكيداً على أنّه الطرف نفسه الذي يواجه بني إسرائيل في المرة الأولى فبعد قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا) تأتي الأفعال فجاسوا –رددنا –جعلنا. ثم تأتي الأفعال المضارعة في قوله يسؤوا –يدخلوا– يتبّروا. فالضمير محلّ فاعل أو مفعول يعود في جميع الأفعال الثلاثة الأخيرة يسؤوا– يدخلوا– يتبّروا عائد كما هو واضح على –عباد لنا– مما يؤكد أنها في الحالتين معركة بين طرفين فقط. الطرفين نفسهما– المسلمين واليهود.
3- من الواضح أنّ التفسيرات الأخرى تشير إلى مواجهة بني إسرائيل لأكثر من قومٍ فمرة نبوخذ نصر ومرة سنحاريب. ومرة الروم. ومرة الفرس. وحتى العرب. وهذا يغاير ما اقتضته الآيات من أنّ المواجهة بين طرفين يتكرّران في المرتين بمعنى إذا كان صراع المرة الأولى مع الفرس أو الروم فصراع المرة الثانية يجب أن يكون معهم.
4- لم يعدْ الله سبحانه لليهود الكرّة لا على بختنصر ولا سنحاريب ولا الروم ولا الفرس ولم يجعلهم الله أكثر نفيراً من هؤلاء (فالآيات تشير إلى أنّ اليهود يصبحون أكثر نفيراً وما كان اليهود أكثر نفيراً من الروم والبابليين. أمّا الآن فقد استطاعوا أنْ يستنفروا كل أمم الأرض ولم يكنْ اليهود في يومٍ ما أكثر نفيراً وناصراً منهم اليوم ولم يتمتعْ اليهود في تاريخهم بمثل ما يتمتعون به اليوم.
5- لقد ردّ الله الكرة لبني إسرائيل على المسلمين والعرب كما هو واضح منذ سقوط القدس وقيام كيانهم واستمرار علوهم وإفسادهم.
6- إن فعل الانبعاث الوارد في مطلع الآيات يحمل من الدلالات والمعاني ما ينبغي الوقوف عنده، فالفعل هنا يحمل إيحاء الرضا والرضا لا يكون من الله على الوثنيين والمشركين وإنّما يكون على المؤمنين وقد جاءت كلمة بعثنا في القرآن الكريم سبع مرات كان الفاعل فيها جميعاً هو الله وكان المفعول به أي المبعوثين هم الأنبياء والمؤمنون الصالحون.
وتؤكد الرؤية الإسلامية موقفها هذا من تفسير سورة الإسراء على ضوء بعض الآيات القرآنية الأخرى التي تؤكد انتصار المسلمين على اليهود وكذلك بعض أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد مر معنا بعضها.
يقول تعالى: (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً) الإسراء 104.
ويقول تعالى: (وإذْ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب. وإنه لغفور رحيم) الأعراف الآية 167.
وقوله تعالى: (وقطّعناهم في الأرض أمماً منهم الصالحون ومنهم دون ذلك). سورة الأعراف 168.
ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود. صحيح البخاري ج3 من كتاب الجهاد والسير.
وعندما نعود إلى قوله تعالى: (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً) (الإسراء 7).
نرى أنّ هذا وعدٌ من الله للمؤمنين عباده بالنصر على اليهود وتحرير المسجد الأقصى تحريراً مؤزراً ينتهي بتدمير ما علا من بني إسرائيل تدميراً مطلقاً كاملاً.
لقد دخل الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بيت المقدس صلحاً وقد جاس المسلمون ديار بيت المقدس دون أنْ يقتل شخصٌ أو يدمّر شيء. وذهب إلى الصخرة التي عرج منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظّفها ومعه القادة المسلمون ثم أمر ببناء مسجد قبة الصخرة، إضافة لاهتمامه البالغ بمكان المسجد الأقصى الذي صلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء.
لقد فرح المسلمون حين فتح عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بيت المقدس وكان فرحهم يضاهي فرحهم بفتح مكة لأنّ ربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى قضية قرآنية تعلو فوق كل ما هو وضعي. إنها آية من آيات القرآن الكريم التي تمتلئ بالأسرار الإلهية والإرادة الربانية.
من خلال ما تقدّم ندرك أنّ القرآن الكريم وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيرته تقول لنا جميعها إنّ القدس ستحرّر وأنّ المسجد الأقصى سيبقى مسجداً توحيدياً إسلامياً وأن المسلمين لابد أنْ ينهضوا ليؤدّوا شعائر الحج كاملة بزيارتهم بيت المقدس ومن ثم يحرروه من رجس اليهود المفسدين.
خاتمة ونداء
بعد أن أعدنا جميعاً تذكر ما للقدس والمسجد الأقصى من شأن في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لم يعدْ أمامنا إلا أنْ نترجم إيماننا ونكمل إسلامنا فالمسجد الأقصى ينادينا كي تكتمل مناسك حجنا. ينادينا كي نؤدي شعائرنا كاملة غير منقوصة. وعندما نكون على مستوى الإسلام لا نتوانى عن تحقيق أهدافنا. فالقدس إسلامية عربية. القدس آية من القرآن الكريم. القدس مسرى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-. ونحن كمسلمين أولى البشر بهذا المقدس الإلهي التوحيدي.
فإن استطعنا أنْ نسير باتجاه القدس نستطيع أن نؤرخ وتؤرخ الأجيال المسلمة من بعدنا أنّنا ما تخاذلنا يوماً عن نصرة مقدساتنا وما نسنا يوماً أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حثّنا على إكمال ديننا وعباداتنا. فالحج إلى بيت الله الحرام يكتمل بزيارة المسجد الأقصى والتقديس فيه. أليس الأقصى حرماً مثل حرم البيت الحرم وحرم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لماذا نترك قتلة الأنبياء وأعداء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعيثون فساداً في الأرض المباركة المقدسة؟ لماذا نترك صوت روح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي تنادينا يا مسلمون قدسكم قدسكم. أين نحن من محمد بن عبد الله قائد المجاهدين وإمام الأنبياء والموحدين أين نحن من قوله لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؟ فأين نشد الرحال اليوم. إلى واشنطن أم إلى لندن أم إلى عواصم الغرب الفاسدة المفسدة.
إخوتي في الإسلام:
حان الوقت كي تنهض الأمة من رقادها وتسير على خطى عبد الله بن رواحة وجعفر وزيد على خطى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة وخالد وصلاح الدين. على خطى هؤلاء الشهداء الذين سطروا بدمائهم أروع صفحات الجهاد المقدس على أرض فلسطين المباركة ومسجدها الأقصى المبارك.
حان الوقت لندرك أنّ الله سبحانه وتعالى ما ربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى إلا ليقول لنا انفروا أيها المسلمون لتحرّروا مقدسات الإسلام من فساد الوثنية ومن موبقات الزناة وقتلة الأنبياء. حان الوقت لنلبّي نداء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصلّي في الحرم القدسي الشريف لننال الثواب والأجر.
حان الوقت كي يعرف العدو قبل الصديق أنّ مسرى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هو مكان لكل موحّد على وجه الأرض. لكلّ من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. حان الوقت لنعيد صلتنا العقيدية بالمسجد الأقصى ونؤكد للعالم أنه ما ضاع حق وراءه مطالب. فالأقصى لكم والأرض المباركة حقكم. إنها الأرض العربية المسلمة الإسلامية. فلنكن لها ولنعلن من حجنا من بيت الله الحرام أنّه لا يجوز لنا أنْ نقبل بحج دون زيارة للأقصى. لا يجوز لنا أنْ نهاب الأعداء ونحن الذين وهبنا أرواحنا ونفوسنا وأجسادنا لله -عز وجل- فلماذا نأتي من أندونيسيا والصين وأنغوشيا من السنغال ونيجيريا وجنوب إفريقيا من أمريكا وأوروبا وأستراليا، أليست تلبية لنداء الله. أليس استكمالاً لأركان إسلامنا. فليكن حجّنا كاملاً حتى يكمل الله عقيدتنا ونصرنا على أعداء الله والدين.
مصادر ومراجع تمت الاستفادة منها:
1- القرآن الكريم.
2- صحيح البخاري.
3- صحيح مسلم.
4- مسند ابن حنبل.
5- كتب السنن.
6- القدس والمسجد الأقصى. محمد حسن شراب.
Aucun commentaire